في الذكرى الثلاثين لتأسيسها فرقة الفنون الشعبية ظاهرة فنية وتجربة شخصية

في الذكرى الثلاثين لتأسيسها فرقة الفنون الشعبية ظاهرة فنية وتجربة شخصية
 الفنان:محمد يعقوب 

لكل بدية قصتها الخاصة ومداخلها التي ترتبط أشد الارتباط بتكوينها وجوهرها فالعلاقة مع التراث أو الفلكلور الفلسطيني ليست محض صدفة، بقدر ما هي هوية انتماء ووجود واستمرار، خاصة في ظل احتلال يسعى لاقتلاع وإزاحة كل معالم الحياة بما فيها الثقافية والاجتماعية والإنسانية الخاصة بشعبنا. 

لقد انتهج كثيرون "سبقونا" نهج التواصل بل ولاتصال مع التراث والثقافة الماضية لكون ذلك عنوان تحدٍ واستمرار فلا حاضر دون جذور الماضي وكذلك لا مستقبل. فالتاريخ سلسلة حلقات متصلة جدلياً وارتقائياً. 
الارتباط بالتراث والفلكلور الفلسطيني جزء لا يتجزأ من معركة الذود عن الوجود والحقوق وكنس الاحتلال، خاصة اذا ارتكزت على ما هو تقدمي وأنساني وحضاري وكفاحي في التراث الماثل أمام الجميع. 
من هنا شقت مجموعة من الشباب المغمور المثابر في التاسع من آذار 1979 بداياتها الأولى لتشكيل وبلورة ما عرف لامحاً وبكل فخر فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية وتجدر الإشارة هنا إلى أن تلك البدايات والتي أتذكرها جيداً لم تكن بتلك البدايات السهلة، فمن جهة معيقات الاحتلال وملاحقاته ومن جهة أخرى نظرات الحقد والحسد التي اختارها البعض لملاحقتنا والتي على أثرها " فصلت أنا وصديق عزيز لي من إحدى الفرق الكشفية المحلية في رام الله وكذلك من عضوية النادي الذي كانت الفرقة الكشفية تابعة له، عدا عن ملاحقة البعض لنا على خلفية أن الفرقة كانت أولى الفرق المختلطة في فلسطين الأمر الذي سبب لنا بعض المتاعب التي لم تثننا عن مواصلة الجهد لإنجاح التجربة وهكذا كان !! فللبدايات سحر الاكتشاف والإجابة على أسئلة الواقع الصعبة وضفر الجهود المبعثرة. 

بدايات شاقة وومتعة: 
قد يستغرب البعض إذا قلت أن أول محاولة لنا كفرقة فنون جاءت في التدريب في ساحة منزل متواضع جداً لدرجة أننا كنا نضطر إلى إزاحة عفش الصالون لنتمكن من التدريب وكان عددنا ستة أشخاص ثلاثة شباب وثلاث صبايا. وبعد اقل من شهرين بدأت سلسلة العروض وكان أبرزها عرض جامعة بيرزيت في العام 1979 الذي حضره حشد كبير من الطلبة وجمهور المهتمين بهذا الفن وقد لاقت هذه العروض الاستحسان والتشجيع. من هنا تمخضت الفكرة الرئيسية، فعلى الرغم من شح الموارد والإمكانات إلا أننا "قررنا" المضي قدماً في هذا المشروع الثقافي والفني والحضاري والإنساني بجوهره للمساهمة في إطلاق رياح تغيير كان لابد من صياغتها في تلكم المرحلة خاصة وأن ذلك ترافق مع بدايات العمل الجماهيري الواسع لدى فصائل العمل الوطني الفلسطيني. وشرعت الخليّة الأولى وبالتنسيق مع الأصدقاء في زيارة العديد من القرى الفلسطينية بحثاً عن عناوين ومصادر لها صلات وثيقة بالتراث الفلسطيني هذا عدا عن الجهد الذي بذل من أعضاء الفرقة بالبحث في مصادر وأمهات الكتب التراثية والجمعيات المعنية ، الأمر الذي أثمر حصيلة مبهرة "لدينا" وأسس لنقطة تحّول قادمة ليس لفرقة الفنون وحسب بل ولمجمل العمل الفني التراثي الفلسطيني ومن هنا جاءت متعة العمل رغم الصعاب. 

الفنون ظاهرة مميزة:
يوماً بعد يوم اتضحت معالم الفرقة واتسعت عضويتها وأصبحت محط أنظار القاصي والداني، فلم تكن تمر ذكرى وطنية أو ثقافية مميزة إلا وكان للفنون حضوراً مميزاً لها فيها، كما استقطبت الفرقة أعداداً إضافية من الطلية، العمال، النشطاء، والنساء، بأعمار مختلفة "الأمر الذي استدعى لاحقاً تأسيس أكثر من فرع للفرقة ليتناسب مع الفئات العمريّة التي أصبحت تحمل هوية الفنون الشعبية الفلسطينية". 
لد امتد الأمر واتسع بنا العمل حيث أتيح لنا لتمثيل فلسطين في أكثر من مهرجان عربي ودولي، حيث شملت العروض كافة أصقاع المعمورة تاركة أثراً لا ينسى على كافة المستويات الإنسانية، السلوكية والثقافية... فأمسينا سفراء للثقافة والتراث الفلسطيني الذي تعرضت بعض رموزه لمحاولات سطو وسرقة من قبل سلطات الاحتلال التي نسبت ذلك اليها، وأيضاً للفن المعاصر الحامل للفكرة الإنسانية عموماً الهادفة. هذه التجربة داخل حدود الوطن بجغرافيته الطبيعية المعروفة وخارجه رسخت مفاهيم "جديدة" في وعي ذلك الجيل وانعكس لاحقاً على الأجيال اللاحقة محدثة حالة تغيير عميقة في نفوس أفرادها ووعيهم، وتبع ذلك تأثيرات مشابهة على أنصارها ومحبيها ومريديها للتحول وبحق لرافعة اجتماعية هامة صاغت وما تزال شخصية كل منا، وانتقل ذلك الى المجتمع المحيط، فأصبحت الفرقة بمثابة حاضنة اجتماعية وفنيّة لجيل أو جيلين. 

صناعة الشخصية: 
رغم ان كاتب السطور أحد مؤسسي فرق الفنون الشعبية الفلسطينية، الا أن العمل من إطارها ومن خلالها أحدث تغييراً في رؤيته وشخصيته، وهنا تكمن جدلية العلاقة، قد نكون وأصدقائي وضعنا الإطار وأسسنا الظاهرة فنية امتد بها العمر الأن ليصل الى ثلاثين عام، لكننا اكتشفنا جميعاً وخاصة "محدثكم" أن الفرقة بأعمالها المميزة وبحثها الجاد عن" المضامين الثقافية والتراثية الفلسطينية والإنسانية عموماً قد صاغت شخصية كل منا بل وقبلت مسيرة حياتنا نحو الصعود والتميز في ميادين العمل المختلفة". ولا أخفي سراً اذا قلت "أنني" حقاً قد انتقلت نقلة نوعية مهمة في حياتي الشخصية من حيث علاقتي بالآخرين ورؤيتي لهويتي الثقافية والإنسانية بل ودوري في المجتمع، وأكثر من ذلك لقد شكلت هذه التجربة وما تزال رافعة لي على المستوى المهني والوظيفي وتعاملي مع الآخرين. 

لقد اتسمت شخصيتي بالترحاب والقبول لدى قطاعات واسعة في المجتمع داخل الوطن وخارجه، الأمر الذي انعكس إيجابا على تكويني النفسي والإنساني، وقدم لي دفعات متتالية لتحقيق المزيد بل والمزيد من التطور والانتماء أكثر واكثر لماضي وما ضد وجودي لفلسطيني يسعى الى جانب ابناء شعبه للخلاص من الاحتلال وكل مظاهر التخلف على تنوعها، والإسهام في عربة شعبي المنطلقة نحو التحرر والنهوض الحداثي. 
وهنا اود أن أسجل وبكل فخر أن هذه التجربة قد صنعت لي شخصية جديدة في زمن مضغوط ولربما كنت بحاجة لو أطال الله في عمري الى أضعاف أضعاف تلك السنوات كي أصيغ ملامح شخصيتي وحضوري وانتمائي، فبعد أن كنت أحد مؤسسي الفرقة ومساهم فعّال في ذلك، أصبحت الآن ممتناً لتلك التجربة ولذلك الدور الذي نقلتني من مكان كنت افتخر فيه إلى مكان آخر افتخر به الآن إلى جانب الأول بشدة أكثر في إطار صيرورة من تبادل التأثر والتأثير أو كما يقال براكسيس. 

وخلاصة القول وبعد ثلاثين عاماً من العطاء والخبرة والتجربة بل والتجدد "كلي أمل" أن تأخذ هذه التجربة المدى تلو المدى وتقتحم الفضاء تلو الفضاء للتأكيد على أصالة التراث الفلسطيني أولا ودور هذا التراث في تعزيز هوية الانتماء لاجيالنا الصاعدة ثانياً وللحفاظ على الهوية الفلسطينية من محاولات النهش المستمرة للاحتلال وكذلك لأخذ بهذه التجربة إلى مساحات واسعة جداً في حقل الابداع ومضامين وتراكم في مضمار الفن المعاصر الذي يحاكي قطاعات واسعة داخل حدود الوطن وخارجه، كما انه يحاكي مفاهيم فنية وانسانية عصرية لابد من مخاطبة الشعوب من خلالها، للتأكيد على أن الفرقة ليست أسيرة الماضي وحسب بقدر ما هي عنوان تقدم وانفتاح وعصرنة بما لا يتنافى مع الهوية الثقافية الأساس.

فإلى الأمام يا فنون وأعلى