في مديح سفيرة بلادي


دفاتر الأيام / تموز 2008 مهرجان فلسطين الدولي
في مديح سفيرة بلادي
زياد خـدَّاش
ثلاث مرات، في حياتي، تعرّضت لإشراق داخلي استولى على كياني كلِّه، وتركني فيما بعد أصارع ظلـمتي؛ وأنتصر عليها، شيء يشبه أن أشاهد بهلعٍ رائعٍ تاريخَ روحي في الأجساد التي سكنتها على مدى عمرها الخالد؛ فيأتيني ذلك الشعور الـممتع الصوفي بوحدة الوجود بشراً وشجراً وأرضاً وأدياناً، رغبة غامضة ببكاء، إحساس حاد بمعنى جديد لكلـمة الغفران، لا أستطيع أن أوضح أكثر تفاصيل وعلامات هذه الإشراقات إلاّ بالقول إن الإحساس يشبه شخصاً فوجئ بقلبه يخرج من صدره ويستقر بين يديه، ثم يفر كما طير أو طفل من اليدين، هابطاً على حافة سور عالٍ راقصاً ومشاغباً، ومطمئناً إياك أن كل شيء على ما يرام، لكنك تستمر في القلق الـممزوج بالـمتعة، كالخوف الخفيف على أطفالنا السعداء الذين يلعبون في الجوار، مع سعادتنا لسعادتهم. 

ثلاث مرات، كانت الأولى بعد قراءتي رواية (مدار السرطان) لهنري ميللر، والثانية بعد أمسية محمود درويش في العام 2005 في قصر الثقافة، والثالثة بعد عرض فرقة الفنون الشعبية في حديقة قصر الثقافة، ليلة أول من أمس. 
أن تشاهد عرضاً لفرقة الفنون يعني أن تستعد لـمغامرة خطيرة، أساسها كلـمة واحدة: التخلي، التخلي عن كل شيء لصالح شيء واحد: مراقبة قلبك وهو يتجوّل في الحديقة مستمتعاً بخوفك وحبّك ولهفتك، عليك ألاّ تفاجأ بأنك لست أنت، وأن كل الـمبتهجين والـمتمايلين بأعناقهم والـملوّحين بأيديهم بجانبك وأمامك وخلفك هم أصدقاؤك وإخوتك، حين تنظر إلى وجوههم؛ تبتسم لهم ويبتسمون لك، كأنك تخاطبهم ضاحكاً بمرح: آه، أنت هنا أيضاً؟. 
لست ناقداً فنياً لأشرح وأفصّل لِـم وكيف أقنعت لوحات فرقة الفنون الراقصة قلبي بالخروج من البيت بهذه الرغبة الـمحمومة بالرقص، والوقوف على حواف الأشياء. 

اللوحات الراقصة عرضت على منصة في حديقة قصر الثقافة، كانت السماء إذاً قريبة جداً، فجأةً أحسست بها تجلس أمامي بشعرها الأسود الطويل، تتمايل بكتفيها الزرقاوين، الليل الرابض على أطراف الحديقة يمارس حنكته الحزينة في التكيّف مع الأنوار والأصوات، لـم يكن ثمة مجال للتزاحم بين الأشياء، حتى الريح خفيفة البرودة جاءت بهدوء وقعدت على العشب مع صبيتين مخطوفتين بالرقص والغناء، كانت سعيدةً ودافئةً، أما أجمل الـمشاهد فكان الظلال الراقصة الـملوّنة للراقصين والراقصات على جدران الحديقة، بجانبي كان يجلس موسى صرداوي (كاتب ومترجم فلسطيني سبعيني قادم من السويد في زيارة للأهل والأرض) كان موسى قبل العرض يحاول أن يقنعني بأنه فاز العام 80 في السويد بمسابقة أجمل راقص، لـم أصدقه بالتأكيد؛ فموسى لا يمتلك جسداً رشيقاً فهو قصير جداً لدرجة أنني أطل عليه حين أكلـمه، ثم إنه من النوع البطيء جداً حركةً وكلاماً ونظراً، بحيث إنني أتوقع أن أذهب إلى البيت، في الـمخيم، في اللحظة التي يكون فيها مستعداً للقول مرحباً، فأكتشف أنني عدت قبل أن ينهيها، لكن كل توقعي تبخـّر فجأةً وموسى يفاجئني برقص غريب، بين الـمقاعد، تلويح باليد نحو نفسه أو نحو مجهولين، جزء من الرقصة كان أقرب إلى الدبكة وجزء آخر كان رقصاً غريباً مرتجلاً، ثملاً بنفسه، تحكمه الإيقاعات، وجزء بين بين، لكنني بالفعل فوجئت، طلب مني موسى أن أرقص، فأجبته إن قلبي هناك على الحافة يرقص عني، صاح موسى في أذني: لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يُهزم هذا الشعب الذي ينجب هؤلاء الراقصين والراقصات ؟؟؟ وأضيف أنا: بماذا يمكن أن يوصف هذا الشعب العظيم الذي يرقص كأنه انتصر على الاحتلال قبل ربع ساعة ويقاتل كأنه لـم ينتصر بعد؟؟؟. 

أحاول، دوماً، متابعة عروض فرقة الفنون، وأحزن جداً حين يفوتني عرضٌ ما لها، الفرقة تأسست العام 79، وحصلت على العديد من الجوائز العالـمية والعربية، وجابت العالـم تناضل بالرقص والغناء؛ من أجل تأكيد إنسانيتنا وترسيخ عمقنا وجمالنا، وحضارة نضالنا، تدير الـمركز إيمان حموري، ويدير الفرقة شاب فنان نشيط يعمل بصمت هو خالد قطامش، أمّا مغني الفرقة الرئيسي صاحب الصوت الـمليء بشجر بلادنا وظبائها فهو الجميل محمد يعقوب. 

العرض الذي شاهدته كان آخر عروض مهرجان فلسطين الدولي للرقص والغناء والذي يشرف عليه مركز الفن الشعبي، في رقصات الفرقة التي يصممها الراقصون أنفسهم، ثمة وفاء خاص للتراث، وفاء منفتح وذكي وإنساني، فإلى جانب الدبكات والأغاني التراثية، ثمة غناء حديث ورقص معاصر مرتجل، ثمة فيروز وحكايات جداتنا وزغاريد أعراسنا، الجميل أنني رأيت مشهداً طريفاً ودالاً، كانت امرأة عجوز بثوب فلاحي، تجلس مع بنت أميركية، الاثنتان كانتا منسجمتين بشكل متوازٍ، كانتا، أحياناً، تتحدثان بالإشارات، والابتسامات، ما الذي كانت تشاهده الأميركية في العرض غير إنسانيتها وجسدها وإيقاعها !!. هنا نجاح الفرقة: في استيلائها على القلوب كافة، وفي الاتساع لكل ثقافات الأجساد والإيقاعات، التحيّة لسيدة فرق بلادي، فرقة الفنون الشعبية، سفيرة روح فلسطين إلى العالـم. 
كان موسى ما زال يرقص حتى ونحن نغادر الكراسي، وكان ما زال يردد: كيف يهزم شعبنا ... كيف ؟ مشينا إلى رام الله، قلبي ما زال هناك يقفز وحده، هل خطفته خفة الظلال على الجدران؟!!!. 

Zkhadash1@gmail.com