في تحية فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية في يوبيلها الفضي


في تحية فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية في يوبيلها الفضيلا أعرف فرقة فنية أو مسرحية فلسطينية أسعفها العمر لتعمر خمسا وعشرين ربيعا، أو لنقل خريفا فالدنيا أيلول. ولا تلاحظ عليكم علامات هرم أو عجز أو خرف، مما يعني أنكم تجاوزتم حالة الأجسام العضوية المرتبطة بشباب وهرم أشخاص عينين ناهيك عن أمزجتهم، إلى المؤسسة، المؤسسة الفنية في حالتكم. ويحق لكم أن تحتفلوا دون تأنيب ضمير. ليس لأن الاحتفال نضال، فلست من مؤيدي هذا الرأي الذي يشاع في هذه المدينة، التي باتت بوابة حديدية دوارة تدخل اليها الناس واحدا واحدا. لا النضال احتفال ولا الاحتفال نضال. وإنما الاحتفال اليوم هو تعبير عن تقدير لكم، وفرح بكم. ويحق لكم أن يحتفي شعبكم بكم، ويحق له أن يفرح بكم.

فتحية لكم لأننا لا نحتاج الى تبرير للاحتفال بكم.

تحية لكم لأنكم لم تعينوا أنفسكم قيمين على التراث بتحويله الى فولكلور، الى معروض جامد، لا هو يتطور نحو الحداثة وفيها، ولا هو يسمح للحداثة بالتأصل فيه، كل ذلك إدعاء ومنافحة عن الهوية. فيما يحتفل المحتل باحتكاره الحداثة، والتطور...ولا يضيره أن يحتل الفولكلور والاستشراق تراثنا. تحية لكم لأنكم ممن كسروا هذه القاعدة التي أرادوا فرضها بعد أن دمروا مشروعا حداثيا فلسطينيا في عام النكبة.

تحية لكم إذا لأنكم مؤسسة ولأنكم انتجتم فنا وليس فولكلورا. تسمونه انتم فنا شعبيا، فليكن فنا شعبيا. الرقص هو فعلا فن شعبي. وأرجو ألا تقوم مقابلكم "فرقة الفنون النخبوية الفلسطينية"، فلا وجود لكائن كهذا تحت الاحتلال إلا من باب الإسفاف. النخبة الفنية تحت الاحتلال تصنع فنا شعبيا. والحقيقة أنني استطيع أن أتصور فنا نخبويا غير شعبي. ولكنه بحكم تعريفه يفلت من التعريف لأنه يدعي تارة عدم انفصال الفن عن أوجه النشاط الاجتماعي الأخرى في عهد ما بعد الحداثة فيعرض مؤخرا شابا حقيقيا يغط في نوم حقيقي في متحف في لندن كقطعة فنية، أو ينفصل عن أوجه النشاط الاجتماعي الى درجة يستعصي عندها على التعريف وذلك عن سبق الإصرار والترصد. على كل حال لسنا في عهد جدانوف ولست مهتما بتعريف للفن في احتفال يوبيلي. ولكن، لم تحن ساعة هذا التمييز بين نخبوي وغير نخبوي في فلسطين بعد كما يبدو، لأننا ما زلنا نحتفي بالفن لأنه فن. كما بالعمل لأنه علم، وكما نحتفي باي اتقان. نحتفي بالفن لأنه فن ولا أقصد الفن من أجل الفن، وإنما أقصد الفن لأنه فن مقابل الفن "كأنه فن".

تحية لكم إذا، لأنكم تنتجون فنا وليس كأنكم تنتجون فنا. وهذه ميزة تؤهلكم للتحية في عصر فُرِضت سياسات الهوية علينا وفرض وصراع الحضارات قسرا. هل سألني أحد لماذا؟ حسنا. لماذا إذا؟ لأنه في عصر الصراع بين الحضارات أو الحوار بين الحضارات، والأمر سيان من ناحية العقلية وزاوية النظر التي ترى في الحضارات كائنات تتحاور وتتصارع، في هذا السياق وفي ظل هذه العقلية قد يؤدي نشاط اجتماعي دور الفن، يمثل دور الفن، كأنه يرمز لفن، يقوم مقام فن يمثل الهوية، هوية الثقافة المتصارعة أو المتحاورة.

وفي ساعة الحوار يُخترَع فنانون وكتاب وأدباء وشعراء لغرض الحوار، يلعبون دورا يفترض أن يلعبوه، وتقام فرق لغرض العرض على حلبات الحوار، يسمى فنا كنوع من ال affirmative action لغرض تأهيل شريك في الحوار أن يكون شريكا متساويا، مساواة وهمية قائمة على التسامح مع الدونية واعتبارها متساوية لغرض الحوار بين متساوين مفترضين، تسامح المتفوق دون أي توجه نقدي يعتبر أي شي نقوم به عظيما اذ يستكثر على الفلسطينيين أي شيء. رخيص هو الثمن الذي يدفع لنا ساعة لعبة المشابهات ال simulations في الحوارات والمهرجانات والمؤتمرات. اما في ساعة الصراع فتحول هذه العقلية كل شيء الى تمثيل للهوية، يصبح كل شيء فنا لغرض التصدي والتحدي، ويسطح كل شيء إلى حالة سجالية تُختزَل إلى بعدها الوحيد ان تكون نقيض الأخر. ويصبح الفن هو النفي، نفي الآخر كمقدمة لنفي ذاته في حياة منزوعة الجمالية والفن. هذا ما ينتهي إليه صراع الثقافات إذا نجحوا في فرضه على الطرف الضعيف المدافع عن ذاته.

الرقص لغة كونية. ولا تذكر الإنسانية مرحلة بشرية خالية من تعبيرات بالرقص. ولكن الرقص الشعائري او الرقص القبلي الجماعي ليس فنا بمعنى أنه عندما يكون الجميع راقصين فكأن الجميع يتكلمون بهذه اللغة، واللغة بحد ذاتها ليست أدبا، والرقص بحد ذاته تعبير او طقس، ولكنه ليس فنا. ومجموعة الراقصين في ديسكوتيك لا يقومون بعملية إبداع جماعية لفن بل يستهلكون الموسيقى والإيقاع بالإذن وبالجسد. وقد يصبح الرقص فنا قائما بذاته، إذا قام بذاته خارج الحالة اليومية الشعبية، وخارج محاكاة الدبكة او الهورا او غيرها. عندها يتوجب عليه أن يبدع ما يتجاوز الأداء المتناقل ذاته.

ناقشتُ في الماضي مقولة الأدب الفلسطيني، وكنت أدعي ان الأدب المقصود يجب أن يسمى عربيا بحكم اللغة التي تتجاوز الأداتية في حالة الأدب إلى الجمع بين الشكل والمضمون، أو لنقل على الأقل هو أدب عربي فلسطيني...ولكن الرقص!!...لا اعتقد ان حكمي يصح هنا، فالرقص ليس عربيا. وهو فلسطيني بحكم الفضاء والمكان والسياق والتراث، وإذا أردنا له أن يكون، أي إذا ساهم في إنتاج هوية فلسطينية لا يجمد فيها بل يتحرك فيما أرجل الراقصين على أرض تاريخهم وتراثهم ورؤوسهم في سماء العصر.

الرقص إنساني ولكنه ليس إنسانيا مثل الأمم المتحدة أو صندوق نشر الديموقراطية الذي يقترح بوش على الجمعية العمومية تأسيسه في هذا الخريف، ولا هو عالمي كالديون والبنك الدولي ولا حتى كالألعاب الأولمبية. الرقص عالمي مثل الحب والرغبة أن تكون محبوبا، عالمي مثل الحاجة إلى التواصل والتعبير، مثل حاجة الفرد الى التقدير. الرقص عالمي لأنه يتيح فسحة شرعية لغريزة الاستعراض ويحولها الى أداء بدل ان يكون الناس استعراضيين تافهين يصنِّمون الشكل دون مضمون في الحياة اليومية. ولكن الرقص لا يكون عالميا إلا إذا كان محليا. لا يكون رقصكم عالميا جدا الا اذا كان من هنا جدا، ولا يتجاوز الأداء هنا إلى الفن إلا إذا تواصل مع الكونية. التعبير الجمالي عن هذا التوتر بين المحلي والعالمي، بين فرديتنا وعموميتنا، بين خصوصيتنا وكونيتنا هو الذي يجعل الأداء يستحق اسم فن.

وإذا كان الرقص تعبير المشاعر بلغة الجسد، فإن المتكلم أمامكم أبكم منذ الولادة لم يرقص في حياته. كان نيتشة يبحث عن فيلسوف راقص، ولا اعتقد أنه أفاد الفلسفة أو الفن في بحثه هذا، ولنذكر انه كان أيضا يبحث عن فيلسوف مقاتل وعن إحياء دين الأسياد. وعلى كل حال لن يجد فيلسوفا راقصا هنا. فارقصوا عنا نحن البُكمُ، ونعدكم أن نرافقكم بنقرات على جدران النفس وهمهمة في الصدر، ونحيب وفرح في الروح هي لغتنا عندما تهتز مشاعرنا نحن البكم جسديا.

كل عام وانتم بخير

كلمة د. عزمي بشارة - رئيس التجمع الوطني الديمقراطي 
التاريخ: 24 ايلول 2004
رام الله- قصر الثقافة