مرة أخرى مهرجان فلسطين الدولي فرقة الفنون: أروت الروح بفرح التفاؤل ورشاقة الأداء وجمعية الأداة

مرة أخرى مهرجان فلسطين الدولي

فرقة الفنون: أروت الروح بفرح التفاؤل ورشاقة الأداء وجمعية الأداة

د.أحمد قطامش

للحرية نرقص... عنوان الامسية التي أحيتها فرقة الفنون الشعبية في مهرجان فلسطين الدولي الثاني عشر، الذي نظمه مركز الفن الشعبي. مهرجان لا يقوى عليه سوى مركز الفن بمديرته ايمان الحموري وقبضة الموظفين والموظفات ومجلس الادارة وأكثر من مئة متطوع ومتطوعة.

لقد تجلى التخطيط، التنسيق، التصميم على النجاح، المرونة، انفتاح الثقافة الفلسطينية على الثقافة العربية والثقافة العالمية... كان المهرجان مرآة مقعرة للحداثة المنتجة فناً وابداعاً، وارادة اقتحام في لحظة يطغى عليها الأدبار، وصرخة أمل في مشهد يعمُه جفاف العمل.

الفن ركن ركين في الثقافة، والثقافة عضوية اجتماعية واسعة بسعة الحياة، انعكاس ذاتي لكافة أوجه الموضوعي. وفي الفن يتكثف الانعكاس الذاتي ويحمل قيماً وذاكرة وذائقة ورسالة وفيض من العواطف... كل ذلك "ممزوجاً ببعض الغموض" موران، بل يمكن الجزم ان القول الثقافي والقول السياسي متحايثان في صلب البنية الفوقية. إذ (على الثقافة ان تصبح ممارسة فلسفية) غرامشي، تستكشف وتثير اسئلة وتسهم في تنظيم قوى التغيير وتساجل الهبوط والفكر القهري الاقصائي الذي لا يعرف الحوار ولا يتقبل تعددية الابداع، ويقطع خيوطه بالعصر، ويناهض "اطلاق طاقات العقل" ديكارت، وأحد طبعاته اختزال الفلوكلور او تصنيم الفلكلور دون استلهامه والانطلاق الى فضاءات حية "النظرية رمادية اما شجرة الحياة فخضراء"نيتشه.

كانت الافتتاحية لوحات فنية حملت "مأساة" الماء، الماء نبع الحياة التي حولها الاحتلال لمأساة فالكثير من حدائق المنازل الفلسطينية تيبست بفعل قيظ الصيف، وبعض المشاغل تلهث وتضرب أخماساً بأسداس والعديد من القنوات تحولت لخرائب.

فمن 700 مليون متر مكعب تسقط على الاراضي الفلسطينية 67 يستخرج الفلسطينيون 100 مليون ويصادر الاحتلال 500 مليون، ومن اصل 50 مليون متر مكعب كانت تتسرب من الخزانات الجوفية في الضفة عبر مسارها الطبيعي في طبقات الارض الى قطاع غزة، لم يعد يصل سوى 10 مليون مما زاد من ملوحة المياه في غزة بفعل الضغط الاسموزي من مياه البحر.

الطبيعة رحيمة، وامطارنا تكفينا ولكن سلطات الاحتلال تستحوذ على المياه الفلسطيني بما يشكل 40% من استهلاك الاسرائيليين، يضاف لذلك اكثر من 300 مليون متر مكعب من مياه نهر الاردن دون أية اتفاقية مشاطئة مع الفلسطينيين. فيصبح استهلاك "المستوطن"ستة اضعاف استهلاك المواطن الفلسطيني وأربعة اضعاف حسب احصاءات الأمم المتحدة والبنك الدولي!

الهوية الفلسطينية حقيقة موجودة، ولكنها مهددة، اتصالاً بالقضية الوطنية المهددة، بعد الاختزال "السياسي" لخارطة الوطن وتفكيك خارطة الشعب، وصمود تيارات أحادية البعد المعتقدي نقيضاً لتعددية مركبات الهوية الفلسطينية منذ العهد الكنعاني حيث صعود عشرات الزعماء قبل أربعة الآف عام في قلعة مجيدو، المدينة الكنعانية، سبعة أشهر الى ان اقتحمتها القوات الفرعونية، وما تركته الثقافة الكنعانية المتواشجة مع الثقافة الأمورية من بصمات، مروراً بالغزوات والديانات، وصولاً للراهن وما يختلجه من رياح عصرية.

وعليه، ينبغي الذود عن الهوية الوطنية، وأحد أركانها الفلوكلور . ولم يكن صدفة أن تمثل "فرقة الفنون" فلسطين في "مهرجان فلسطين" الذي جاء صورة مشرقة للتعددية والتثاقف بما جعله يستجيب لكل الأذواق والميول، ليس في تنوع امسياته فقط بل وفي تنوع فرقه، وتنوع جمهوره الذي تجاوز محافظة رام الله والبيرة الى محافظات أخرى، سيما في ليلة "الفنون" حيث امتلأت المقاعد بما يصل 1500 ومئات آخرين، من الفئات الوسطى والقطاعات الشعبية على حدٍ سواء، نساء ورجالاً، ومن كل الأجيال.

"والفنون" الرشيقة بإمتياز، المتناغمة على نحو لافت، رقصت للحرية، حلم البشرية، الحلم المضاعف لشعبنا، وجاءت لوحاتها العشرين، المزيج الجدلي بين التراثي والمعاصر، حركة ولحناً ولباساً ومضموناً، التجلي الحي للحرية وأحد تمظهراتها الذي تجاوز التعبير للإبداع.

أجل "دون شغف عظيم لا إنجاز عظيم" هيجل، وشغف الفرقة التي تناهز 70 عضواً، توزعوا  بإتقان ملحوظ في لوحة "فنونيات"، الأكثر ابهاراً وتواصلاً مع الجمهور، على مسرح ضيق بالكاد يتسع لنصف العدد، لينهض الجمهور حائراً بين التصفيق وطلب المزيد.

لم يأت تكريم الفرقة بموجات من التصفيق وتلويح الأذرع واختلاجات النفس الطربة التي القت بتوتراتها المحشورة بين الضلوع، مستنشقة لحظات من البهجة المعمدة بالوعد  والحب... لم يكن صدفة. فالفرقة  شغوفة بعملها، وشغوفة برسالتها وشغوفة بجمهورها.

ولولا الانتماء الطوعي الجماعي الصافي المتحرر من الاعتبارات الربحية، الذي يعلو على التذمرات ومشقات التدريب، لما صمدت الفرقة ثلاثة عقود، دون ان ينقطع مدادها الابداعي، موشحة ببيئة تطلق طاقات عضويتها وبيئة اخلاقية تبث التطامن في نفوس الجميع وعوائلهم، على نهج فرسان العصور الوسطى " الواحد للجميع والجميع للواحد" بل وحفنة من طلبتها في الثانوية حصدت هذا العام اعلى العلامات، تفوق باهر أكاديمي وتفوق باهر فنّي.

كان سؤال اتواصل الابداعي، التحدي الكبير، ذلك ان العديد من التجارب الجمعية، عرفها شعبنا، ائتلفت وخبت، أما "الفنون" فصانت دينامية صعودها، وكان احد الاشتراطات تأمين "النواة المتميزة"، آحاد من الصبايا والشباب، يستنزفهم "الزواج والسفر والعمر" ولكنها تتجدد مرة أخرى. أما في أمسية "للحرية نرقص" فقد تألقت "نواة" بحجم مضاعف، فأسماء جديدة لمعت وضفرت السابقة، هذا التركيم الكادري، ربما أنه منجز غير مرئي ولكنه الاسطع في دلالاته.

فللفرقة خط سير ونهج عمل يثمران نجاحا يرمم ثغراته ونقاط ضعفه دون مخاتلة، نجاح يصنعه الجميع وموهبة الجميع، خصلات في جديلة واحدة، لكل خصلة مزاياها ولكنها تتحد في كلية مبدعة. وهذا ما كان ليكون لولا تفاني الجميع ومثابرة الجميع، وقبل كل شيء مايسترو الفرقة، مديرها خالد قطامش، ونورا وربى وشرف وعطا وحسين وأبو يعقوب وليلى وديانا وناديا ومرام وهنا، وسري وفايز ونضال...

وكل الفرقة دون استثناء، مع تخصيص اسم الطفلان الموهوبان اللذان لم يبلغا العاشرة بعد، مصطفى وتارا ودون نسيان الذين سكبوا سنوات عمرهم في الفرقة وإن لم يعودوا ناشطين فيها اليوم.

الفرقة تثير الدهشة، في مشهد فقير بالدهشة والمدهشين، وطوفان من الصحراء الذي يحاصر الخضراء، ولكنه طوفان لا يتمكن من شتلات النجاح وروايات النجاح.

الفن أحد وجوه الثقافة، له وجه بقسمات خاصة، ولكنه يحمل هم الوطن والناس بطريقته، وكونه ابداعياً فهو يدعو لكسر الترسيمات الجامدة ويبشر بالغد، وهو (طليعي يتقدم على الجمهور ويمد يده اليه) بريخت، وهو ليس مباشراً وان اضطر للتبسيط والمباشرة أحياناً.

لم تكن أمسية "للحرية نرقص" رسالة واحد بل رسائل، ولم تكن لوحة واحدة بل نحو 20 لوحة، تكاملت على نحو مبهر، وحدت "الأكثر جمالية" "بالأكثر تراثية" "بالأكثر معاصرة" بالأكثر وجدانية" بالأكثر سياسية"... ولكنها جميعاً تضمخت ببعض من هذا وذاك. والجمهرة لم يأتها التثاؤب ولم يساورها الملل، بل حافظت على حيوية التواصل الى أن هلت "تحية فنونيات" بعنفوان فرس جامح، فنهض الرائون عن مقاعدهم .

الفن الجيد عملية تراكمية تضم جناحي الابداع والنقد، لتحرير الفنان/ة ودفقة في صيرورة تحرير المجتمع من رواسب اللاعقلانية والبنية التقليدية الشائخة، كما يضخ االوعد بإمكانية التغيير "لا تقل هذا طبيعي فحينها يتعذر التغيير" بريخت، وهذا حال أمسية فرقة الفنون التي حملت الأمل والوعد معاً، مثلما حملت التصميم الرشيق، والكلمة الملتزمة والأجساد التي تتكلم بلغة "محترفة".

لم تصدّق سيدة أجنبية، ذي اختصاص، شاهدت عرضاً "للفنون" ان الفرقة مكونة من متطوعين ومتطوعات، وان هذا السرب صناعة فلسطينة صرفة وإبداع يعتمد على ذاته.

منذ وقت صرخ الراحل الكبير انيس الصايغ "ان القائد الفلسطيني يرى في المؤسسة الثقافية ملكيته ويتعامل مع مركز الأبحاث كدكان" ولأن فرقة الفنون فرقة وطنية تقبض على الثوابت الاصيلة وتضم ملاكات دون تمييز في الانتماء، بعيده عن الفئوية الضيقة، فهي تجربة جديرة بالدرس، فلربما ان هذه الخصائص هي النبع الذي تستقي منه تفوقها الابداعي.

ان فرقة الفنون تغذّ الخطى في درب وعر.. ولأنها تربأ بنفسها عن الوقوع في "تنزع الثقافة الفلسطينية الى الانطفاء حين تقيم فصلاً بين اسئلة الثقافة والقضايا الوطنية الفعلية" د.دراج، فهي فرقة فنية قلباً وقالباً وتتجشم نصيبها من هموم الوطن في آن . ولأنها تحظى بهذه الشعبية فهي مطالبة بالمزيد "إذ ليس ثمة ما هو اسخف من الرضا عن النفس" لينين.