Submitted by anasabuoun on
مهرجان فلسطين الدولي: تثاقف أم تماهي؟
فرقة الفنون: تمايز فردي وبطولة جماعية، ألبست الرقص الحديث ثوباً فلسطينياً
نشر في جريدة القدس المقدسية أحمد قطامش
شهد قصر الثقافة في رام الله الفاعلية الحادية عشرة لمهرجان فلسطين الدولي الذي كان أكثر تنظيماً وجمالية بما أثار سؤالاً جوهرياً: أحقاً أن قبضة موظفين يقومون على مناشطة بهذا الحجم؟ إن السر في التفاني والمتابعة وتجنيد الطاقات التطوعية وفي مزايا المديرة إيمان الحموري.
أما فرقة الفنون التي افتتحت الأمسية الأولى، فعملها الجديد الذي سحر الجمهور ما يزيد على الساعة، إنما جاء قفزة نوعية، في جمالياته ومضامينه، بما يسمح للقول أن هذا العمل هو رائعة الفنون وشاهد حي على تحديها الإيجابي لمعوقات عديدة، ومضِّيها في الأشكال الفنية الطليقة للإبداع، بعيداً عن الإنغلاقية والمراوحة والترسيمات الشائخة. وهذا لم يكن لولا كافة الأعضاء سيما ضفيرة الكادرات الصاعدة ومدير الفرقة خالد قطامش.
يفترض أن أستهل مقالتي بالتعريف بتلكم الأمسية الرشيقة، الفاتنة، ... غير أنني أبدأ من زاوية اخرى: الإبداع بجماليته الفنية وجذوره ووظيفته الاجتماعية، في مجتمع يغلب على وعيه الاتباع لا الإبداع، النص لا العقل، التكرار لا خلق الجديد.
يمكن القول بحسم أن الحضارة البشرية بأسرها هي مشروع إبداعي عظيم، يتعذر فيه فصل الإبداع المادي عن الإبداع الثقافي، سعيْ الإنسان لتلبية احتياجاته المادية عن سعيه للحرية وتلبية احتياجاته الثقافية، بل ويحتل الفن دور المهماز للتحرر من قيود الاستبداد والاغتراب وتسليع الإنسان.
وعليه، ما هي محركات الفن، وما معاييره الجمالية، وهل له وظيفة اجتماعية في قضايا الصراع الكبرى؟
منذ ديموقريطس الذي قال قبل أكثر من 2400 سنة (لا يمكن أن تغتسل في مياه النهر مرتين) أي أن كل شيء يتحرك، الحياة والقيم والأفكار... الأمر الذي سار على هديه السفسطائيين أذكياء ومثقفو أثينا، مدينة المدن في ذلك الزمان، الذين لجأوا للبرهان المنطقي للتدليل على آرائهم، وصولاً إلى منهجية أفلاطون العقلية، الذي تجرع كأس السم بقرار قضائي لأنه أصغى (لصوت ضميره) بما خالف السائد، وأرسطو العبقري الذي أرسى بدايات علم المنطق، دار الجدل حول الفن والإبداع. وثمة إشارات حول ذلك في الفكر الهندوسي بغزارته والفكر الفرعوني، كما هناك لوحات وتماثيل كنعانية تشير للفن وحركته...
لا مهرب من نقطة منهجية (أن الحضارات متمازجة كثيراً ومتشابهة كثيراً) إدوارد سعيد. فالتفاعل ركن ركين في الحياة الثقافية، التفاعل الجدلي الذي يهضم الإيجابي ويولّد الجديد الأرقى. التفاعل مع الذات ومع تاريخ المجتمع ومع النقيض. فالنقائض لا ينفي أحدها الآخر فقط، بل وتتفاعل لولادة الأرقى أيضاً. فالفن ابن الحياة وعنصر فاعل ومنفعل في آن، وهو كجزء من الوعي الاجتماعي دينامي ارتباطاً بدينامية المجتمع.
وحتى على صعيد الموقف الأيديولوجي للفن، فهو وإن كان أحد أشكال الأيديولوجيا، وبصورة أكثر دقة ليس ثمة فن دون أيديولوجيا، أي ينحاز لهذه القوى الاجتماعية أو تلكم الكتلة التاريخية، لهذه الرؤية أو تلكم الرؤية، فهو أيضاً يتحول تبعاً لتحولات الحياة من جهة ويتفاعل مع الفن الآخر وعلاقات الصراع بين القوى والكتل الاجتماعية من جهة أخرى. وفي ظل هذه العملية التناقضية إنما يتطور وينتقل من صيغ إلى صيغ (ففي التناقض الحياة وفي التماثل الموت) مهدي عامل.
فالفن التحرري مهما كان إنما يتصارع ويتفاعل مع الفن الإمبرالي، وهذا حال الفن الاشتراكي والفن الرأسمالي، والفن المعاصر والفن التقليدي الماضوي، بما لهذه الرؤى من مدارس عديدة حتى في الرؤية الواحدة.
وعليه، ليس ثمة فن صنمي، جامد، خارج الزمان والمكان، ومطلق لا يتطور. ففصل الفن عن صيرورة الحياة هو وهم كامل، وكأنه يتنزل من ملكوت السماء دون ارتباطه بالأرض، وأن وضعه خارج الجغرافيا والتاريخ، واعتبار الفنان روح متعالية، كائن خارق، طاقة غامضة غير متصلة بالشروط الموضوعية للفنان، يعيدنا إلى مقولات تجاوزها الزمن، وكأن الفن سماء اللاهوت والفنان رسوله ولسان حاله، بما يضع الفن والفنان خارج الزمان التاريخي ومتغيراته وقضاياه، أكذوبة دحضها منذ زمن ابن خلدون في علم الاجتماع، وختمها الدكتور فيصل دراج بالقول (ليس ثمة ثقافة وطنية خارج المشروع الوطني أو مشروع وطني بلا ثقافة) بما يتجاوز كثيراً منظور أرسطو (أن الفن أحاسيس ذاتية تطهيرية للنفس تخلّصها من عيوبها وقبحها نحو الكمال والمعايير المطلقة). بل وفصل الفن عن أساسه الاجتماعي وتحولاته وتناقضاته إنما ينوء بثقل يحاول تجميده فلا يتجدد ولا يتطور مع تجدد وتطور الحياة، الشيء الذي يتهاوى ما أن نرى الارتباط الجدلي بين الفن والفنان وقضايا الناس والانتماء الاجتماعي/ الثقافي/ السياسي (بالمعنى الواسع لكلمة سياسة) دون أن نغفل بداهة المشتركات الإنسانية التي يمكن أن يعبّر عنها الفنان أيضاً بما يوسّع ويعمّق التفاعل بين الفني والإنساني.
وحسبنا استدعاء لوحة بيكاسو غارنيكا عن المذبحة الرهيبة في بلدة غارنيكا الاسبانية، أو رواية عائد إلى حيفا لغسان كنفاني، أو السيمفونية السابعة لتشيفوسكي أو فيلم الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، وفرقة العاشقين الفلسطينية أو تمثال الجندي المجهول في أي مكان...
وعندما يتم إنزال الفن والفنان من ملكوت الذات المتفردة المنفصلة عن الحياة إلى أرض الواقع ومخاضاته إنما يتم التخلص من النظرة النخبوية للفن، تلكم النظرة التي أسسها أسياد الإغريق كما جاءت في الرد على الاسكندر المقدوني الذي احتج على أستاذه لأنه نشر كتاباً بالفلسفة، قال (لقد نشرناه ولم ننشره ولن يفهمه إلا من درس على إيدينا مثلك). وانتشرت مدرسة بريخت (الفن الطليعي يقف أمام الجماهير على مسافة قريبة، ويمد يده إلى أيدي الجماهير) فهو طليعي وغير مستغلق ويقيم صلة بالوعي الشعبي للإنسان العادي، وبالتالي يتحرر الفنان من اغترابه حينما ينسج فنه أوسع العلاقات مع الحياة وأمور الناس ويمارس دوره الفاعل فيها، فينتقل من المفعول به المغترب إلى الفاعل الإيجابي الذي يؤدي وظيفته، ومثل هذا الدور لا يؤديه إذا اعتصم في علياء النخبوية وانفصل عن قضايا الواقع تفترسه أحاسيس الاغتراب المريرة.
الفن، عموماً، محايث للإنسان، لا يفصله سور الصين العظيم عنه ولا يختبئ خلف جدرانه العالية فهو في تواشج بنيوي مع تطلعات الإنسان وأوجاعه، وحتى لو بدأ مغترباً إنما يعثر على بذوره الاجتماعية ووظيفته ما أن ينغمس في العملية الإبداعية ويعكس قضايا الناس بجمالية، على هذا النحو يكون الفن الحقيقي، بعيداً عن التأويلات المسطّحة لأمزجة مأزومة، بل مهزومة لا تثق بنفسها ولا بقدرة البشر ولا بالمستقبل.
وبكلمة واحدة، ففضاء الفن هو الناس وهو يستهدفهم دون أن يتحول لتهويمات مستعلية، ويرفع ذائقتهم دون أن يهبط بمستوى جماليته. وهذا هو التحدي الأساس للفن والفنان.
وبلا ريب أن الفن يزدهر ويرقى في مراحل الولادة التاريخية، مرحلة الثورة الفرنسية 1789، المشروع الصيني التنموي اليوم، ثورة اكتوبر 17، التحولات الجذرية في أمريكا اللاتينية، مرحلة صمود/صعود المقاومة الفلسطينية... أما "الفن" الذي يعبر عن القوى الاجتماعية الشائخة والمنحطة فيصاب بالانحطاط والتدهور، وفي التحليل الأخير لا يبقى في الوادي غير حجاره أما الزبد فيذهب جفاء.
إن الفن نقدي بطبعه، والثقافة نقدية بطبعها، ويكف الفن عن كونه فناً وتكف الثقافة عن كونها ثقافة ما أن يبلغ التسييس حد تبرير الانحطاط والهبوط والقبح والشرور والاخفاقات، بما يفقدهما بالتالي منطقهما الداخلي واستقلاليتهما النسبية.
وختاماً، الفن ليس مشاعر ذاتية جمالية فقط، تتفاعل في العقل والنفس فقط، متعالية ومنفصلة عن واقع الحياة، مجرد قيمة جمالية، بل قيمة جمالية وإبداع خلاق ووظيفة اجتماعية تخدم الحرية وتنقد الشرور في آن.
أجل إن الفن علاقة، علاقة تفاعلية بين الذات المبدعة والشروط الموضوعية، علاقة منتجة ومرآه ومحرّض في آن.
على امتداد أسبوع، استقبل قصر الثقافة سواء في المسرح الذي نصب في الهواء الطلق أو في القاعة الداخلية، أكثر من عشرة آلاف مشاهد/ه، غصت المقاعد وما بينها من ممرات، جاء الحشد يبحث عن لحظة فرح، عن لحظة إبداع، يبحث عن المخبوء في ذاكرة لم تتجلى في ذاكرة تجلت، فتعانقت الذائقة بغذاء الروح، كعناق أديم الأرض بزخات من غيث السماء.
شكراً لمركز الفن الشعبي الذي سار في طريق الانفتاح على الفن العربي والعالمي دون أن يفقد ملامحه الفلسطينية. التماهي ان ينظر شعبنا لنفسه من زاوية نظرة المستعمِر له، أي أنه خامل، عاجز، دون قضية عادلة و"إرهابي" بلغة دكتور النفس فرانس فانون، أما حصاد مناشطات مركز الفن فكان عملية معاكسة بدءاً بصبايا فلسطين اللائي افتتحن المهرجان بكبرياء يشحن بالفخر، مروراً بفرقة الفنون رأس حربة الإبداع المحلي وصولاً إلى الفن اللاتيني... وما اتصل بذلك من مناخات حفزت بعض الأجانب للقول: إننا نشهد فن حي لشعب حي.
شكراً لمركز الفن الذي أتاح مساحة للتثاقف، للتثاقف الذي يصون ما هو جوهري في الهوية "بحركتها وحركيتها" دون إذدناب الآخر أو ذوبان في الآخر. فالإنغلاقية الكهفية مضى زمانها ما ان غادرت المجتمعات القديمة عصر الكهوف والقرى المكتفية ذاتياً والقبائلية المرتحلة، فما بالكم بعصر الفضائيات. والإجراء الحمائي الوحيد هو المنتج الوطني المنافس المادي والمعنوي، أما التغطية على العجز بطلاء الخطابات والعبارات المكرورة فلا يجدي نفعاً.
"تسعى العولمة لتحطيم اليوتوبيا وحلم الناس بالحرية والعدالة" سعد الله ونوس، أما مهرجان فلسطين الدولي فهو عرس يضخ في شرايين الحلم والصمود...
وكذا الجمهرة، لم تكن ساكنة، بليدة، متلقية سلبية، جنائزية، بل أعلنت عن طاقتها الانفعالية، كعلامة حياة تحتفي بصنع الحياة، وبيئة يمكن استثمارها في أي مشروع تحرري جمعي.
إن جهوداً متشعبة صرفت في تنظيم مهرجان فلسطين الدولي، فمجرد تجهييز المكان تطلب عملاً للفجر احياناً، أما ظهور فرقة الفنون على المسرح فاستدعى تدريباً منتظماً مرتين وأكثر أسبوعياً على امتداد الأشهر. إنها كخلية النحل نشاطاً ودقةً، وقطفة بل حزمة زنابق جمالاً.
العشرات يتقاطرون من المدن والأرياف، شباب وصبايا وأطفال، طلبة وعمال، في مواعيد محددة، وكأنهم فرقة محترفة، ويغادرون بعد الثامنة مساءً، كلهم على قسط وافر من النجاح في مدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم، فالفرقة رواية نجاح في الفن والتعليم والعمل والسلوك في آن.
"صور وذاكرة" ورشة إبداعية جماعية حقاً، قبضة واسعة من الكادرات صممت اللوحات، وفي قاعة مركز الفن الشعبي اختبروا أفكارهم، يستصوبون هذه الحركة ويصوبون تلك ويعيدون النظر في ثالثة ويشقون الطريق في رابعة... إنهم مختبر خلاق في مجتمع اورثه القائمين عليه التكلس بالجمود.
ثمة عقل نظري فني يتعمّل ويلد في معمعان الممارسة وثمة تمايزات فردية تتأكد، أما البطل القابع في برج عاجي يتدلى من بين شفتيه غليون معقوف، ويتطاير شعراً أشعثاً من رأسه ويقطب جبينه ويكسو وجهه بالهيبة المفتعلة، فهو غير موجود. فالعمل من تصميم وتدريب ورقص الفرقة، والفكرة والرؤية الإخراجية من إنتاج الفرقة أيضاً.
لربما أن هذا اهم تركيم بلغته الفرقة، إذ بات لديها فريق من المصممين والمصصمات، من الراقصين والراقصات، فريق يخلق ويصمم ويرقص في آن، ليس بينهم أستاذاً وتلامذة، بل تمايز فردي في إطار جماعة مبدعة بما يحيلنا على المربي مكارنكو في "الفرد والجماعة"... كتمظهر استثنائي في واقع خطف الأفراد غير الأكفّاء مؤسساته وتنظيماته وميادينه، يقرروا فيطاعوا أو تهتاج الصحراء فتحاصر الخضراء، أو يتولى سيف ديموقليطس حصد الرؤوس أو سنوات عمرهم دون أن يبلغ العقل مرحلة الحوار، الحوار الهيجلي – الماركسي
أ + ب = ج، أما الفرقة، فأزعم انها تحدت بإيجابية مصاعب عديدة، وأفسحت المجال لولادة ج أي العمل الجديد النوعي وبذلك تجاوزت ما هو سائد أ + ب = أ + ب فيبقى الحال على حاله صنمياً متخلفاً.
هذا التركيم هو أهم منجز هو اهم ضمانة للفرقة ومستقبلها وهي تسهم بدور طليعي في إرساء مداميك الفن الفسطيني.
التجديد والإضافة، ومرة أخرى التجديد والإضافة، من خلال حوارية مع الذات وحوارية مع الموروث الفني وحوارية مع الرقص الشعبي العربي وحوارية مع الفن العالمي... مثل هذه الحوارية متعددة المستويات هي التي أتاحت اختراق جمود الزمان والمكان، بالاتكاء على الموروث كجزء من الهوية والإضافة عليه تماشياً مع ديالكتيك الحياة والهوية، وتفاعلاً مع ما هو اوسع من فلسطين. فالتفاعل ركن ركين ومتطلب أساس، بما اغنى العمل الجديد وفتح فضاءً واسعاً دون قطع الصلات بالجذور أو المساس بجوهر الأشياء.
إن السير على حبل العلاقة بين التراث والمعاصرة، بين عناصر الهوية الماضوية وعناصر الهوية الراهنة والمستقبلية المتخيلة، بين المحلي والعالمي هو كالسير على خيط دقيق يتطلب الكثير من التوازنات المتناقضة.
لم يكن العمل دراما صاعدة... فهو طائفة صور ولوحات ينْظُمها واقع فلسطين بمحطاته وقضاياه وصيرورته، فهو ليس فانتازيا مجردة أو تنفيساً لمشاعر ذاتيه، بل صور إبداعية تتحد فيها المشاعر بالمضامين وقضايا الواقع وهي تومئ بتحرضٍ أو تعلن عن تفاعل او تفجع أو أو... وعلى الدوام تؤدي وظيفة اجتماعية. فهذا هو الفن الملتزم كاحد فروع الثقافة الملتزمة.
ولئن غلبت المباشرة على ثقافة المقاومة عموماً، المباشرة التي تحمل او لا تحمل معايير جمالية، "فصور وذاكرة" طغت عليها الرمزية. فالوعي الاجتماعي السائد تشده المباشرة وأن يصار لرفع ذائقته ومقاييسه لكيما يهضم الرمزية، هو تحدٍ وضرورة فنية في آن. وقد حالف الفوز الفرقة هنا بصرف النظر عن التساؤلات الجزئية عن طول أو قصر هذه اللوحة أو تلكم أو لون اللباس... الأمر الذي يمكن الاهتمام به.
إذ من المقطوع به أن الفرقة منذ اللوحة الأولى بهرت الجمهور وختمت عملها بلوحة "حنجلة" عالية الوتيرة وتوسطته بلوحة "الحجل" عن المرأة وخصوصيتها، فأعادت خمس يمامات بل خمس صبايا الاعتبار لكلمات أرسطو (الفن وسيلة تطهيرية للتخلص من قبح الحياة وبلوغ الكمال)، فلئن كانت المرأة معيار الجمال فاللوحة كانت هي الأجمل، مما جعل الجمهور في النهاية يصفق طويلاً. لقد بلغ الشغف حداً يُتَقبّل مع انتهاء المشكلة.
من الواضح أن بعض أعضاء الفرقة قد تفوقوا على انفسهم، واحتلوا مساحات أكبر من عروض سابقة، يحدوني ظنٌ ان الفرقة بأسرها وكل عضو فيها، لديه من المخزون والطاقة ما هو أكثر مما شاهدنا على المسرح، الشيء الذي يشكل احتياطاً ومجاهيلاً تستحق الاستكشاف والتوظيف.
لكيما أتفاعل "كيميائياً" مع "صور وذاكرة" شهادة البروفا الأخيرة كما أمسية الافتتاح... كم هو واقعي وذا دلالة ما شاهدت، يكاد يلغي المسافة ما بين (الصورة والوجود) بلغة الفلسفة، هناك من يقوم بالاحماء أو تنظيف المكان او يتحسس بقدميه خشبات المسرح أو يتمازح مع آخر... الجميع يتململ بما هو اشبه بعش نسر تتأهب فراخه للطيران، عشٍ عالٍ وفراخ قوية الشكيمة جلودة ورشيقة يعلوها جمال البراءة. ومدير الفرقة لم يحتج لطويل وقت لكي يستحثهم للتهيؤ، فكل راقص/ه يعي مكانه ودوره جيداً، وفي ذروة التفائل والفرح يُسمع صوتٌ قبيح: ممنوع التجول، ولكن بلكنة لا تخلو من سخرية... فقوة الحياة لدى الفلسطيني دفعته للصمود والبصاق في وجه الاحتلالات التي تكالبت عليه منذ أربعة آلاف سنة، ذهبت جميعها وإن دام بعضها بضعة قرون، إلا الأخير الذي تحيط بمصيره أسئلة كبيرة هي مصدر الفوبيا الإسرائيلية.
أما الناس فهم على عهدهم يفلحون أرضهم ويرقصون على صوت الشبابة ويستمتعون براحة المريمية ويعالجون وجع البطن بقشور الكينا... ولأن شباب فلسطين بنضرة النعناع ومرونة وصلابة الخيزران، لايجرؤون على النظر إلى عيون حبيباتهم ما لم يمتشقوا سلاح المقاومة وروح العزم، رحلت كل الغزوات واستمر الشعب.
وهذا لاحظناه في "صور وذاكرة" الذي استخدم بمهارة عناصر من الهوية الفلاحية (المنجل، الغربال، العباءة، الشال، الكوفية،...) وكلمات الراحل محمود درويش (أيها المارون بين الكلمات) وصوت محمد يعقوب الذي شكل إضافة مميزة بظهوره على المسرح دون ان تنل سنوات الزمن من اوتار وطبقات صوته، والكلمات الفلكلورية "هزي غربالك هزي ... من الناقورة لغزة" التي عكست خارطة الوطن التي تسعى اطراف عديدة لاختزالها، ومن قبل، على امتداد القرون، تعرض إقليم فلسطين لمحاولات عدة لتقسيمه، غير أن الجغرافيا والتاريخ كانا اكثر بأساً من السياسة وتموجاتها.
ولئن صح مأثورنا: يعرف الكتاب من عنوانه، فمنذ الإرهاصات الأولى "صور وذاكرة" اعلن المستوى الفني عن نفسه واحتل الراقصون/ات المسرح واحكموا سيطرتهم عليه ومنعوا تسلل الفراغ إليه، واندغمت الحركات في ألحان الموسيقى محلية، عربية، عالمية، على إيقاع بطيء أو سريع أو متسارع، تسبح الأذرع في الفضاء وتنتفض الأقدام بديناميكية وتتحرك الأجساد بخفة والروح تؤدي عملها باشتياق يفضح عن المعنى وإيصال الرسالة، فعبق الوطن وألق أجياله الشابة تجليا بروعة فائقة.
مرت لحظات موشحة بالسواد وعتمة المسرح، ثقيلة على النفس وكئيبة في لوحة "من زمان" حين ضاع مرج ابن عامر كرمز لضياع فلسطين، كل شيءٍ يقطر كآبة ويبوح بحزن دفين ويلطم المشاهدين بمرارة مأساتهم.
لكن التحدي مستمر، في لوحة مشعل الفراري وغبيشي الذي قتل الضابط المستعمر وعاش طريداً مع حبيبته مؤثراً الجبل على الحياة الذلولة، وبعد سقوط الشهيد تنهض إرادة القتال من جديد إذ (سيظل شعب فلسطين يثور جيلاً بعد جيل إلى ان تتحرر فلسطين) عبد القادر الحسيني الذي سقط في القسطل بعد ان خذلته أنظمة العرب.
إن الانتقال السريع في معاني الرقصات على المسرح أفضى لانتقال سريع في الحالة المعنوية للمشاهدين، فمثلما تتنفس الحياة الفنية على المسرح تتنفس الحياة الواقعية في القاعة، ينزف الجرح على المسرح فتنزف الروح في القاعة، ينهض الحب والغزل في لوحة فاتنة تشي بالقدرة على اقتناص الشعور الأجمل فتُفتن القلوب الخامدة واليقظة، وما ان يرتفع إيقاع العنفوان تنتعش الأجواء بجرعات من التفاؤل والعنفوان. فرسالة الفن أبعد مدى من مجرد تسلية وترويح وتصب في طاحونة إعادة صياغة الواقع على نحو أفضل (إذ على الثقافة أن تتحول لممارسة فلسفية) غرامشي، بل (ولا خوف على شعب لم تهزم ثقافته) سعد الله ونوس.
- Log in to post comments